لماذا «الأقيال»؟
الساعة 09:10 مساءً

بدأ يوم 20 سبتمبر 2014م بكارثة، قتل الحوثيون أكثر من 300 طالب جامعي قرروا افتداء صنعاء بأجسادهم، فسحقوا بلا رحمة، كان وزير الدفاع -يومذاك- يصرح لوسائل الإعلام قائلاً: «الجيش محايد»!، وبقيت قرى صغيرة على أطراف صنعاء صامدة في وجه آلة عسكرية متوحشة غير أنها سُحِقت هي الأخرى، كان فم الدعاية مفتوحًا عن آخره. نشرت وسائل التواصل الاجتماعي نقدًا مريرًا ولاذعًا للشيخ القبلي «صالح عامر»، أرادت إزاحته عن شرف المواجهة، وتحميله مسؤولية الصدام العسكري مع الحوثيين المهرولين إلى صنعاء، اختل توازن قوات الجيش وانتفخت أوداج وزير الدفاع، وقرر المذيع «جميل عزالدين» مع عدد محدود من طاقم قناة «اليمن» الرسمية البقاء في بث مباشر، كان اليمنيون بحاجة إلى وجه مألوف يقول لهم ما الذي يحدث؟، إلا أنه كان خائفًا على وطنه، يبكي، وقد أغرق الملايين بدموعه ودموعهم.

في المساء ظهر الرئيس بجوار رجل قصير يرتدي الزي اليمني، إنه مبعوث «عبدالملك بدرالدين» الكاذب يحاول طمأنة الناس بأن كل شيء على ما يرام، إلا أنه كان تنازلاً رئاسيًا مؤسفًا عن سلطة القائد الأعلى للقوات المسلحة، ورضوخ حكومي مهين لمئات الآلاف من المهاجرين الفارسيين الذين قرروا إبتعاث نظرية «الولاية» باسم «الهاشمية».

كانت تلك العقيدة «الوهم» ابتلاء اليمن الأكثر دموية والأشد غرابة، ومن ضراوتها القاسية، وعلى وقع ضرباتها وأسنة رماحها وأزيز رصاصها وفجائع دويها، بُعث اليمانيون من جديد، تشكل الرفض تلقائيًا لمثل تلك الخرافات الثيوقراطية. بدأ الأمر بعاصفة شابة تبحث عن إجابة لسؤال وحيد: من هؤلاء؟، وكأن السؤال قد فتح ثغرة في جدار سد منيع ضربه السُلاليون على اليمنيين طوال 57 عامًا من الجمهورية، فتفجّرت المعرفة، وتدفقت المعلومات والحكايا وقرأ الناس تاريخهم المدفون، وتعرفوا إلى الغزاة عن كثب لأول مرة، وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إدهاش القارئ «المواطن» بجرائم إبادة متكررة على مدى «ألف عام من الدم» صنعها أسلاف «الحوثي» بإصرار سفاح لم يجد هواية أخرى غير قتل اليمنيين مرتين على الأقل كل قرن.

نشأ «الأقيال»، وكان هذا هو اسمهم -نسبة إلى الوظيفة القبلية التاريخية لممالك حمير، نقّب هؤلاء الأقيال عن كل جريمة دونها المستوطنون في أجساد أسلافهم، وقرروا مواجهة المجتمع اليمني بالحقيقة، إلا أن السياسة لم ترحمهم. ابتدع خصومهم أسماءً مستعارة حاولت النيل من نبل مقاصدهم وشرف دفاعهم عن الهوية اليمانية كامتداد أصيل لجغرافيا العرب المهددة بالغزو والتبديل القسري في عقائدها وأزيائها وأعرافها، ووراء كل رصاصة حوثية كانت المعرفة تتضخم والمشككون ينحازون إلى هويتهم كأفضل وسيلة للدفاع عن كيانهم الوطني.

يتميز الأقيال بأنهم «قوة شابة» وخارقة، مشكلين أخطر تهديد وجودي لعقائد الحوثي وسُلاليته العنصرية، غير أن لا أحد حتى اللحظة فكّر تحويلهم إلى قوة منظمة يمكنها إنتاج أحزاب وطنية، ومؤسسات بحثية وقيادات ميدانية ومراكز دور نشر، وقنوات تلفازية، فالحرب على أهميتها العسكرية لا تقل ضروراتها الفكرية عن صاروخ توماهوك الخارق، ولا يمكن لترسانة حربية أن تؤدي التأثير العميق الذي قد يشكله «الأقيال» في مواجهة حرب شاملة ابتدأها الحوثيون بالوهم والسيف والعصبوية السلالية التي تحركت من وسط الأحياء السكنية والقرى ومراكز المدينة، كأنهم كانوا معسكرات احتياط مُذخرة للثورة ضد اليمن الجمهوري من العمق السُكاني.


يواجه الأقيال رياحًا جنوبية لا تعترف بهويتها اليمانية الأصيلة، رغم أن تلك المناطق العزيزة هي أصلنا الباقي في مواجهة التصحر السُلالي، فهي «سرو حمير» ومنها جاءت أجمل وأعظم ممالك اليمن القديم، غير أن التاريخ المصنوع على عجل بأيدي ساسة مهاجرين من أبناء عمومة «سفاح صعدة» صاغت لهم هوية أخرى تلفظ يمنيتها بغرابة مؤلمة.

ذات يوم كتبت إليهم قائلاً: إن «عبدالملك بدرالدين» لم يكن يمنيًا يومًا واحدًا في حياته، لا هو ولا أسلافه وبقايا سُلالته المتعصبة، لقد سرق مِنّا أجمل أيامنا، ويوم قرر غزو أراضيكم وقراكم كان مدفوعًا بعِرقه العنصري، فتحركت معه كتائبه من «عيال عمومته» المنتشرين في كل أنحاء الشمال اليمني، حتى أن تعدادهم تجاوز أكثر من مليون شخص، وهو تعداد ضخم وقع في يده سلاح الجمهورية ودباباتها وثرواتها فلم يكن أمامه فرصة لإسعاد أسلافه المُعذّبين في جهنم سوى اقتحام أسواركم في لحظة خيانة بليدة من ساسة أقل ما يوصف عنهم، أنهم «الحمقى اللؤماء»، غير أن الجنوبيين كانوا كما عرفناهم «قبائل نارية» لم تصمت، وقد فتحوا للغزاة المستوطنين أخدودًا جديدًا في عمق الجحيم، قائلين وسيوفهم تقطر من دماء خصومهم: نحن اليمانيون يا غلمان الخميني.

مواجهة أخرى قد تكون حاسمة في مستقبل تَكَوّن «الأقيال» أنهم حتى هذه اللحظة بلا مشروع واضح وقيادة جاذبة، وأن تحولهم إلى حراك اجتماعي سيكون أمرًا حتميًا مع استمرار الحرب التي لا يريد «عبدالملك بدرالدين» إيقافها، ربما رغبة منه في الانتقام من «عيال عمّه» الذين لم يرفعوا سيوفهم في مواجهة النظام اليمني منذ اليوم الأول لمعركة التمرد الخطير في جبال مران «يونيو 2004م».

منذ تلك اللحظة قبل 15 سنة، مرّت على اليمن لحظات ابتلاع قاسية، بدأت من صعدة ثم انتهت في عدن وانحسرت اليوم إلى الحدود الشطرية السابقة، بحدود مفجعة يشكل الدم فيها خارطة ما قبل العام 1990م، ولن ينجح الأقيال في مهمتهم إن لم يبرهنوا لعيال عمومتهم في المناطق اليمانية الجنوبية أنهم أهل وعشيرة، وأن العدو واحد لا شريك له من شمال الوطن إلى شرقه وغربه وجنوبه، ذلك الخبيث الذي جاء من «خراسان» غازيًا ومُستوطنًا ليهدم أسطورة اليمن المذهلة.

وإلى لقاء يتجدد.

▪︎نقلًا عن "الجزيرة" السعودية

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص