حمل كاذب
الساعة 07:24 مساءً

أشارت صديقتي المثقفة المتميزة هدى جعفر إلى إحدى المقابلات حين سأل المذيعُ النجمَ الراحل بول نيومان عن ابنه الشاب الذي اختطفه الموت باكرًا، فقال: إنّ مشاعرك حيال هذا الأمر (فقدان الابن) تستمر بالتغيّر، لكنك لا تشعر بالتحسّن أبدًا.
المهم والمؤثر في الأمر هو تعليق هدى على مقولة نيومان، اِذْ قالت: هذا بالضبط ما أشعر به نحو الحياة بعد الحرب، قد تُفتح لك أبواب جديدة، وتتعرف على بشر غير متوقعين، وتكتشف نفسك مرة أخرى، لكن لا يمكن أن تشعر أنّك أفضل، ولا يُمكن أن تشعر بالسعادة.
وقد وجدتني أبادلها الشعور ذاته، أو بوجه أدق: أشترك معها فيه. ولا أشك في أن كثيرين بل الأكثرية يعيشون الاحساس عينه. وهو ما يجعلك تشعر بأنك تفقد الكثير من ملامحك الانسانية الداخلية، على نحو مرعب أحياناً، برغم ما يحيط بك أو ما تحيط به نفسك من مظاهر الاحتفاء والابتهاج الشكلانية، حفاظاً على ما تبقّى منك أو من محيطك أو نسيجك، في ظل تداعي جدران واقعك وروحك على السواء ط، في كل يوم بل في كل لحظة!
...
تعلّمتُ الكذب كثيراً منذ أن شبّت نيران الحرب في بلدي.. ولكنه الكذب على الذات، لا على الآخر ولا الواقع.
وصرت أجد لذة ونشوة عميقتين في ممارسته، بما يتجاوز لذة الجنس ونشوة الخمر. ويزيد من بهرجة المشهد وأفعوانه أنك تجد الكذب يداهمك من كل جهاتك الأصلية والفرعية، وفي السياسة كما في الصحافة وفي الفن، وفي الاجتماع كما في الاقتصاد، وحتى في العلائق العابرة على هامش الزقاق اليومي.
حتى في مشهد الحرب اليومية على جميع الجبهات والواجهات، وفي جميع الخنادق والفنادق، تتبوأ منظومة الكذب المكان الأبرز والأكثر حضوراً وفاعلية على كل منظومات النيران وتتقدم قاعدته على كل قواعد الاشتباك، بحيث يغدو هو اللوحة وكل ماعداه مجرد اطار. 
جميعهم في ميدان المعركة المدنسة -جميعهم بلا استثناء- يمارسون الكذب باسهال وبائي نتن.. من رئيس الجمهورية.. إلى قادة الانقلاب.. إلى زعماء التحالف.. ومسؤولي الحكومات والسلطات.. وكُتّاب الأعمدة المنقودة كاش أو المُباعة بالآجل.. ولأول مرة يظهر صحافيون وكُتّاب ومثقفون أسفل من القتلة واللصوص وأرذل من مغتصبي الأطفال.
...
نعم يا هدى.. نحن لسنا أفضل حالاَ.. ولسنا سعداء على الاطلاق.
ونحن لا نحاول أن نتجمّل، بل نكذب مع سبق الاصرار وعن وعي كامل.
أتعرفين لماذا؟
لقد انسحقنا إلى أبعد الحدود. لم تسحقنا الحرب، بقدر ما سحقتنا مشاعرنا الكاذبة تجاه أنفسنا وتجاه بعضنا.
نحن حمل كاذب في رحم مُستأصَل!
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص