متى تتبدل صورة الرجل في الرواية العربية
الساعة 09:33 صباحاً
لم يعد ثمة ما يدهشني في الحياة بعدما تعرضت للمفاجآت كلها.. من حربية ويومية (أليفة!). وتستطيع زرافة أن تجلس في المقعد المجاور لمقعدي في السينما دون أن يدهشني ذلك.. وفي وسع فيل أن يدخل إلى المطعم ويجلس إلى مائدتي ويشرب الحساء بخرطومه.. في وسع فراشة جميلة أن تلسعني كنحلة، ويستوطن عش من البوم في زوايا سقف غرفة نومي، وتمساح في حمّامي، وتستقر رصاصة في وسادتي وأنا نائمة، وفي وسع بجعة أن تمشي أمامي على الرصيف برفقة نعامة وهما تدخنان السجائر دون أن يدهشني ذلك، لكن مشاهدة صورة أبي الحبيب (الراحل منذ أكثر من نصف قرن) في جريدة «القدس العربي» ـ العدد 9433 الأربعاء 23 كانون الثاني/يناير أدهشني حقاً.. بعد عقود من (اللادهشة)! شكراً يا نجم الدراجي وعمرو مجدح قرأت عنوان المقال عنه وهو «الدمشقي العتيق.. أحمد السمان» بقلم الأديبين: العراقي نجم الدراجي، وابن عُمان عمرو مجدح. طالعت المقال بذهول وشراهة وبدهشة استولت عليّ. فقد فوجئت بمقال ثري بالمعلومات عن والدي يرسم حقاً شخصيته وهو الذي حمل الدكتوراه من السوربون في باريس وانتقل من الحي الشامي العتيق للإقامة في شارع شامي عصري، لكنه ظل يحن إلى التسكع في حيه العتيق والجامع الذي كان يؤذن فيه الفجر بصوته الجميل قبل الذهاب إلى المدرسة.. وأدهشني حقاً أنهما دعما مقالهما بما كتبه عنه الراحل د. صباح قباني السفير لسوريا في U.S.A، إذ كتب د. قباني حكاية عن أبي تدل على انتمائه للطيبين والبسطاء وعدم تكبره أو عجرفته بعدما صار رئيساً للجامعة السورية ووزيراً، وتأثرت بوصف الأديبين نجم الدراجي وعمرو مجدح لأبي بأنه من «قامات أشبه بشجر السنديان التي بنيت عليها الأوطان»، وهذا صحيح، إذ بعدما ناضل والدي ـ كما ذكرا ـ لتحرير سوريا من الانتداب الفرنسي حاول وسواه بناء صناعة في سوريا للاكتفاء الاقتصادي الذاتي، وأذكر أنه كان من مؤسسي معمل الزجاج في ضاحية دمشقية، ومعمل السكر في حمص، وشركة الطيران السورية، وسواها.. وكنت أرافقه في زياراته التفقدية لها. نجيب محفوظ وشخصية «سي السيد» ببساطة، أنا من المعجبين بفن نجيب محفوظ، وهو الذي رسم صورة «سي السيد»، الزوج المستبد والأب المرعب لبناته، وهي صورة لا نستطيع أن ننكر أنها موجودة في حياتنا العربية، في المقابل ثمة شخصية أخرى موجودة أيضاً للرجل العربي الحنون الكادح من أجل أسرته، البار بزوجته وبناته بالذات. إنها صورة يكاد يفتقدها أدبنا العربي، بل إن بعض الكاتبات الناجحات من المطالبات بتحرير المرأة يقعن في فخ أحادية الصورة ويرسمن للرجل العربي صورة مشابهة لـ«سي السيد». وأذكر أن كاتبة عربية شهيرة رسمت صورة أليمة للأسرة (الذكورية)، حيث ينال الصبي قطعة اللحم الكبيرة من الطعام، والبنت قطعة اللحم الصغيرة! ولكن الرجل العربي ليس «سي السيد» وحده، وحان الوقت لكاتبة عربية/كاتب شاب لرسم وجهيه بأكثر مما فعل جيلنا. الرجل العربي الجميل والدي الذي رحل وأنا في مطلع العشرين من عمري وما زال يحتل ذاكرتي كان صديقي الوحيد. والدي الذي أسس كلية الشريعة في الجامعة كان يحترم المرأة، أهديته «عيناك قدري» كتابي الأول، والثاني «لا بحر في بيروت»، وكتب د. مطاع صفدي عن صلتنا قائلاً: «معجزة غادة أنها ابنة رجل محافظ، ومع ذلك استطاعت أن تحمله على الوقوف بجانبها ضد كل الحملات التي تعرضت لها.. والعلاقة بين الأب والابنة لا توجد إلا بين صديقين حميمين»، ولكن والدي كان ككثير من الآباء العرب يحترم المرأة عامة، وفي عهده الجامعي أدخل أول أستاذة امرأة هي الدكتورة رندة الخالدي للتدريس في الجامعة السورية. وتعلمت من أبي درس «جمالية التعب»، فقد قبل دعوة للمحاضرة كأستاذ زائر في جامعتي هارفرد وبرنستون الشهيرتين، في U.S.A بعدما بذل جهداً جباراً لإتقان الإنكليزية وهو تجاوز الخمسين. وحين كسرت يده اليمنى تعلم الكتابة باليسرى أيضاً! ندوة مشتركة وخفة الظل المحببة أمامي الآن بطاقة دعوة قديمة جداً إلى ندوة مشتركة لوالدي ولي، في منتدى «سكينة» الدمشقي، لأقرأ أنا قصة ويحاضر والدي عن ضرورة «الوحدة العربية الاقتصادية»، وكنت في بدايات حياتي الأدبية. والدي نهض إلى المنبر قبلي وقال للحضور: أخشى أن تقرأ ابنتي قصتها قبلي وتنصرفوا بعدها ولا يبقى لي من الحضور مستمع، لذا قررت قراءة كلمتي قبلها! وانفجر الحضور ضحكاً لخفة ظله. وثمة ليال باريسية عاصفة أكون وحدي فيها في البيت، أتخيل أن بابي يُقرع وأنني أفتحه فأجد والدي جاء لزيارتي بعد فراق طويل دام أكثر من نصف قرن وما زال يقطن ذاكرتي. وأذهب أحياناً إلى عنوان البيت الذي أقام فيه منذ عقود طويلة قرب جامعة السوربون حين كان طالباً في باريس، وأتخيل أنني سأجده أمام الباب بانتظاري، لكنني أجد المبنى وقد تحول إلى فندق، وأتذكر بامتنان أن أبي حرص على تعليمي الجامعي على الرغم من أن أخته (عمتي) أمية كما جدتي كما تقتضي التقاليد الشامية العتيقة بتعليم البنت الطبخ لا الأبجدية! ما كتبه الأديبان نجم الدراجي وعمرو مجدح تحريض ناجح لي لكتابة مذكراتي وللمناداة بتعديل صورة الرجل العربي في أدبنا، فهو ليس دائماً «سي السيد»، بل يتدفق غالباً حناناً وعطاء لأسرته من صبيان وبنات.. ويحترم المرأة عامة..
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص